أيه الصائمون :في الناس
مَرِيضٌ يَرجُو الشِّفَاءَ، وَمُبتَلًى يَطلُبُ العَافِيَةَ، وَفَقِيرٌ يَأمَلُ الغِنى، وَمُضَيَّقٌ عَلَيهِ يَتَلَمَّسُ السَّعَةَ، وَثَمَّةَ مَهمُومٌ نَاءَت بِهِ المُشكِلاتُ، وَمَدِينٌ أَثقَلَت كَاهِلَهُ الحُقُوقُ، وَمَطلُوبٌ أَقَضَّ مَضجَعَهُ الدَّائِنُونَ، وَتَرَى كُلَّ هؤلاءِ يَتَلَفَّتُونَ يَمنَةً وَيَسرَةً وَيَتَفَكَّرُونَ، وَيَفزَعُونَ إِلى مَن يَظُنُّونَ فِيهِ خَيرًا، وَيُلقُونَ بِحَاجَاتِهِم إِلى مَن يَأمُلُونَ عِندَهُ قَضَاءً، وَكَثِيرًا مَا يَغفَلُونَ في هَذَا عَن بَابٍ وَاسِعٍ مِن أَبوَابِ الفَرَجِ، بَابٌ أَوسَعُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ، بَابٌ مَا طَرَقَهُ مُحتَاجٌ إِلاَّ قُضِيَت حَاجَتُهُ، وَلا وَلَجَهُ مُضطَّرٌّ إِلاَّ نُفِّسَت كُربَتُهُ، ذَكَرَهُ الكَرِيمُ في ثَنَايَا آيَاتِ الصِّيَامِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وَدَعَا إِلَيهِ الرَّحِيمُ عِبَادَهُ وَرَغَّبَهُم فِيهِ وَدَلَّهُم طَرِيقَهُ، يَقُولُ الحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ.
فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، مَا أَكرَمَ الخَالِقَ وَأَقرَبَهُ وَأَرحَمَهُ! وَمَا أَغفَلَ الخَلقَ وَأَضعَفَهُم وَأَبعَدَهُم! يَدعُوهُم مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَيَفتَحُ لَهُمُ البَابَ وَيُرشِدُهُم لِلطَّرِيقِ، ثم يُعرِضُونَ عَنهُ وَيَذهَبُونَ إِلى غَيرِهِ، وَيَسلُكُونَ سُبُلاً لا يَدرُونَ مَا نِهَايَتُهَا، يُدَبِّجُونَ خِطَابَاتِ الشَّكوَى لِمَخلُوقِينَ مِثلِهِم مُحتَاجِينَ، وَيَطلُبُونَ الشَّفَاعَاتِ مِن مَسَاكِينَ عَاجِزِينَ، وَيَنثُرُونَ مَاءَ الوُجُوهِ لَدَى مَن لا يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلا نَفعًا، وَيُذِلُّونَ النُّفُوسَ أَمَامَ مَن لا يُغنِي عَنهُم قَلِيلاً وَلا كَثِيرًا، وَمَعَ هَذَا لا يُكَلِّفُ أَحَدُهُم نَفسَهُ أَن يَجأَرَ إِلى اللهِ بِدَعوَةٍ، أَو يَرفَعَ إِلَيهِ كَفَّ ضَرَاعَةٍ، أَو يَهمِسَ إِلَيهِ في جُنحِ الظَّلامِ بِحَاجَةٍ.
أَيُّهَا الصائمون، إِنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ وَقُربَةٌ جَلِيلَةٌ، لا يَدَعُهَا إِلاَّ عَاجِزٌ، وَلا يَغفَلُ عَنهَا إِلاَّ مَحرُومٌ، صَحَّ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ))، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَاني))، وقال : ((إِنَّ اللهَ تعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَستَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا خَائِبَتَينِ)).
وَإِذَا لم يَكُنْ رَمَضَانُ هُوَ شَهرَ الدُّعَاءِ وَفُرصَةَ الابتِهَالِ وَالنِّدَاءِ فَفِي أَيِّ شَهرٍ يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَإِذَا لم يَستَغِلَّ العَبدُ مَوسِمَ الرَّحمَةِ لِيَرفَعَ إِلى مَولاهُ حَاجَاتِهِ وَرَغَبَاتِهِ فَمَتى يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَإِذَا كَانَ اللهُ حَيِيًّا كَرِيمًا يَستَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا فَكَيفَ بِمَن شَفَتَاهُ مِنَ الصَّومِ ذَابِلَتَانِ وَبَطنُهُ خَالٍ طَاعَةً لِرَبِّهِ وَقَدَمَاهُ مَصفُوفَتَانِ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا؟! كَيفَ بِهِ إِذَا رَفَعَ كَفَّيهِ وَنَاجَى رَبَّهُ عَلَى تِلكَ الحَالِ؟!
فَهَلُمَّ ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِلى اللهِ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ، فَبَينَ أَيدِيكُم الثُّلُثُ الأَخِيرُ مِنَ اللَّيلِ، حَيثُ يَنزِلُ رَبُّ العَالمينَ إِلى السَّمَاءِ الدُّنيا نُزُولاً يَلِيقُ بِذَاتِهِ سُبحَانَهُ، وَيُنَادِي خَلقَهُ: هَلْ مِن سَائِلٍ فَأُعطِيَهُ، هَل مِن مُستَغفِرٍ فَأَغفِرَ لَهُ، هَل مِن تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيهِ، هَل مِن دَاعٍ فَأُجِيبَهُ، وَفي هَذَا يَقُولُ : ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبدِ في جَوفِ اللَّيلِ الآخِرِ، فَإِنِ استَطَعتَ أَن تَكُونَ مِمَّن يَذكُرُ اللهَ في تِلكَ السَّاعَةِ فَكُنْ))، وَيَقُولُ عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ في اللَّيلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ خَيرًا مِن أَمرِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ في كُلِّ لَيلَةٍ)). وَبَينَ أَيدِيكُم السُّجُودُ في الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ وفي قِيَامِ اللَّيلِ، وَأَقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، يَقُولُ سُبحَانَهُ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ، وَيَقُولُ : ((وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجتَهِدُوا في الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَن يُستَجَابَ لَكُم)). وَبَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَقتٌ لِلدُّعَاءِ المُستَجَابِ، يَقُولُ : ((إِذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَت أَبوَابُ السَّمَاءِ وَاستُجِيبَ الدُّعَاءُ))، وَيَقُولُ : ((الدُّعَاءُ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ مُستَجَابٌ، فَادعُوا)). وَفي آخِرِ سَاعَةٍ مِن يَومِ الجُمُعَةِ وَقتُ إِجَابَةٍ، قَال : ((يَومُ الجُمُعَةِ ثِنتَا عَشرَةَ سَاعَةً، مِنهَا سَاعَةٌ لا يُوجَدُ عَبدٌ مُسلِمٌ يَسأَلُ اللهَ فِيهَا شَيئًا إِلاَّ آتَاهُ اللهُ، فَالتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعدَ العَصرِ)).
فَيَا أَيُّهَا الصَّائِمُونَ، أَينَ أَنتُم عَن هَذِهِ الفُرَصِ الكَبِيرَةِ لِلدُّخُولِ عَلَى مَلِكِ المُلُوكِ؟! وَاللهِ، لَو فَتَحَ مَلِكٌ مِن مُلُوكِ الدُّنيَا لِلنَّاسِ بَابَهُ يَومًا لِيَرفَعُوا إِلَيهِ حَاجَاتِهِم وَيَبُثُّوهُ شَكَاوَاهُم لَوَجَدتَ الزِّحَامَ عَلَى بَابِهِ كَثِيفًا، وَلأَلفَيتَ الحَاضِرِينَ إِلى قَصرِهِ لَفِيفًا، فَكَيفَ وَمَلِكُ المُلُوكِ هُوَ الذي يَفتَحُ البَابَ؟! كَيفَ وَهُوَ سُبحَانَهُ القَرِيبُ المُجِيبُ؟!
أَلا فَأَكثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ في شَهرِ البَرَكَاتِ، وَارفَعُوا إِلى اللهِ جَمِيعَ الحَاجَاتِ، وَأَلِحُّوا بِالمَسأَلَةِ في شَهرِ النَّفَحَاتِ؛ فَإِنَّ مَن أَكثَرَ طَرقَ البَابِ فُتِحَ لَهُ، وَرَبُّ العَالمينَ يُحِبُّ مِن عَبدِهِ أَن يُلِحَّ عَلَيهِ في الدُّعَاءِ، وَيَغضَبُ ممَّن تَرَكَ سُؤَالَهُ وَأَعرَضَ عَن رَحمَتِهِ، قال : ((إِنَّهُ مَن لم يَسأَلِ اللهَ يَغضَبْ عَلَيهِ))، وَاحذَرُوا العَجَلَةَ وَاستِبطَاءَ الإِجَابَةِ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِقُربِ الفَرَجِ وَحُصُولِ اليُسرِ، فَقَد قال : ((يُستَجَابُ لأَحَدِكُم مَا لم يَعجَلْ، يَقُولُ: دَعَوتُ فَلَم يُستَجَبْ لي))، وَيَقُولُ : ((اُدعُوا اللهَ وَأَنتُم مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ لا يَستَجِيبُ دُعَاءً مِن قَلبٍ غَافِلٍ لاهٍ)).
يَا مَرِيضًا عَبَثَ بِهِ الدَّاءُ وَالأَلَمُ، يَا فَقِيرًا استَبَدَّت بِهِ الدُّيُونُ، يَا مَهمُومًا، يَا مَغمُومًا، يَا مُحتَاجًا، يَا مُضطَّرًّا، أَينَ أَنتُم عَنِ الدُّعَاءِ؟! أَينَ أَنتُم عَنِ التَّضَرُّعِ؟! أَينَ أَنتُم عَن قَرعِ أَبوَابِ السَّمَاءِ في هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ؟! أَلا فَادعُوا اللهَ مُوقِنِينَ، وَالجَؤُوا إِلى الرَّحِيمِ مُستَسلِمِينَ، وَارغَبُوا إِلى الكَرِيمِ مُخلِصِينَ، اُدعُوا دُعَاءَ المُضطَّرِّينَ، وَأَلِحُّوا إِلحَاحَ المُحتَاجِينَ، فَوَاللهِ لا غِنى لَكُم عَن رَبِّكُم طَرفَةَ عَينٍ، أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يُكنى أبا مِعْلَق، وكان تاجرا يتجر بمال له ولغيره، يضرب به في الآفاق وكان ناسكا ورعا.
فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك .قال ما تريد إلى دمي شأنك بالمال.
قال: أما المال فلي ولست أريد إلا دمك. قال: أما إذا أبيت فذرني أُصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، قال: فتوضأ ثم صلى أربع ركعات.
فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود ياذا العرش المجيد أسألك بعزك الذي لايرام، وملكك الذي لايضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني ثلاث مرات.
فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة واضعها بين أُذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله.
ثم أقبل إليه فقال: قم. قال: من أنت بأبي وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم؟
قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول، فسمعتُ لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعتُ لأهل السماء ضجةً. ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله تعالى أن يُوليني قتله
أَتَهـزَأُ بِالدُّعَـاءِ وَتَزدَرِيـهِ وَمَا تَدرِي بمَا صَنَعَ الدُّعَـاءُ
سِهَامُ اللَّيلِ لا تخطِي وَلَـكِنْ لَهَـا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انقِضَـاء